هيا انطلقا بأمان

وضعت الحمامة البيضاء آخر قشة في عشها الذي بنته على شجرة الصنوبر، انضم إليها شريكها ذو اللون الرمادي بقشة أخرى. طارا مسافة قصيرة وحطّا على غصن قريب يتأملان العش فرحين بما أنجزاه، صفقت بجناحيها وعادت إلى العش لتستريح قليلاً. بدأت تغني أغنية فرحة ناعمة بهديلها.

بعد أيام وضعت بيضتين في العش ورقدت عليهما. كانت تتبادل مع زوجها احتضان البيضتين انتظاراً لخروج الزغلولين منهما.

وجاء اليوم الذي تنتظره، خرج أول الصغيرين من البيضة، ثم خرج الثاني بعد قليل. أشرقت الشمس، تأملت الفرخين الصغيرين والشعر الذهبي يلمع على جسميهما. صارت تطير وتعود بطعام في فمها لتطعم الصغيرين من الفم إلى الفم والفرح يملؤها، وكذلك كان يفعل الأب.

كبر الصغيران واقترب وقت الطيران، فملأها فرح عظيم. فجأة جاء الثعلب ووقف تحت الشجرة وصاح بها: إرمِ لي الفرخين وإلاّ صعدت إليك وأكلتك وأكلتهما.

سيطر عليها الخوف، بكت، رجته، لكنه كان بالغ القسوة وأكّد تهديده معطياً إياها مهلة قصيرة. بكت ورمتهما إليه، واستدارت في نظرها إلى الجهة المعاكسة حتى لا تراه وهو يأكل الصغيرين.

قالت لنفسها: جيد أنه لم يأكلني11، سأبيض مرة أخرى وآمل أن يكون قد رحل عن المنطقة أو ابتعد لفترة كافية بحيث يطير الزغلولان القادمان قبل أن يرجع.

مرت الأيام… زوج جديد من الزغاليل صار على وشك الطيران. كانت الحمامة فرحة جداً لأنها لم تر الثعلب منذ فترة، لكن فجأة برز الثعلب تحت الشجرة وطالبها كما في المرة السابقة أن ترمي له الفرخين وإلاّ…

بكت، ورجته هذه المرة أن يعطيها مهلة لتودعهما، بأن يتركهما معها ساعة تلعب معهما. قال لها إنه طيب القلب وسيوافق على طلبها، وإنه سيغيب ساعة ويرجع ولن يسمح بانتظار أطول.

حضنت الفرخين وبدأت تنوح بصوتها الحزين. هبط على غصن قريب منها مالك الحزين، الذي سمع بكاءها أثناء تحليقه قرب الصنوبرة، سألها عن الأمر فأخبرته بطلب الثعلب.

قال لها: – يا صديقتي، أولاً إنه لا يستطيع الصعود إليك على الشجرة، وثانياً لو صعد فإن بإمكانك أن تطيري وسيأكل الفراخ، ماذا ستخسرين إن رفضت طلبه؟.

أعجبتها الفكرة واقتنعت بها.

عاد الثعلب بعد ساعة وطلب منها رمي الزغلولين، أجابته بقوة: – اصعد إن كنت تستطيع ذلك، لن أرمي لك إبنيّ لتأكلهما.

سكت ولم يرد عليها، نظر إلى أعلى فرأى مالك الحزين على الغصن القريب من العش. تصنّع الهدوء، وجلس تحت الشجرة قليلاً ثم نادى مالك الحزين: – إنني أشعر بالملل يا صديقي مالك، هلاّ نزلت عندي لنتسلى بالحديث عن الجو، يبدو أن البرد قادم.

نزل مالك الحزين ووقف إلى جانب الثعلب. تحدثا بأمور الطقس، حدثه مالك الحزين عن البلاد التي يهاجر منها وبردها الشديد.

سأله الثعلب:- وكيف تتقي العاصفة يا صديقي إن جاءت من اليمين؟10

رد مالك الحزين:- أضع رأسي تحت جناحي الأيمن هكذا.

رد الثعلب بإعجاب ظاهر: رائع، ثم سأل: – وإن جاءت من اليسار؟

رد مالك الحزين: -أضع رأسي تحت جناحي الأيسر هكذا.

قال الثعلب مظهراً إعجاباً أكبر: – جيد، لقد أفدتني بعلمك، وإن هبت الريح من الجهتين، ماذا تفعل؟

رد مالك الحزين: – أدفن رأسي بجناحيّ الإثنين هكذا.

رفع الثعلب يده إلى أعلى ليضرب مالكاً ضربة قاضية.

صاحت الحمامة، التي كانت تراقب ما يجري، بمالك: – انتبه يا صديقي مالك.

تراجع مالك سريعاً إلى الخلف.

جرحت ضربة الثعلب طرف جناح مالك، لكنه استطاع أن يطير إلى الشجرة.

اقتربت منه الحمامة تتفقد جرحه، قالت: – الحمد لله، إنه جرح بسيط، سيشفى سريعاً، كاد هذا الماكر أن يقتلك.12

مسحت بجناحها على جناحه المصاب، وقالت له: – يجب أن تستريح حتى يلتئم جرحك، سنحضر لك الطعام أنا وزوجي.

طلبت منه الانتظار ريثما تعود ببعض الطعام له ولفرخيها اللذين سيطيران بعد أيام قليلة. استراح مالك الحزين على الغصن، ونظر إلى الثعلب الذي كان ما زال يضرب الأرض بقدميه الأماميتين غضباً لأن خطته قد فشلت، ثم نظر إلى الفضاء الأزرق الواسع حيث سيعود للتحليق فيه مرة أخرى ليواصل رحلته.

بعد يومين ومع شروق الشمس أيقظت الحمامة فرخيها وقالت لهما: -استيقظا يكفي نوماً، اليوم موعدكما مع تمارين الطيران. نهضا وكلهما شوق وانتظار ليسبحا في الهواء ويريا المناطق البعيدة.

جاء الأب ليشارك في هذا الاحتفال المنتظر. 

قال موجهاً كلامه للفرخين وأمهما:- لقد وصلنا إلى هذا اليوم الرائع الذي انتظرناه، ونجوتما من الثعلب الماكر بفضل صديقنا العزيز مالك، ليته معنا الآن ليراكما تحلقان في الهواء على خلفية السماء الزرقاء الصافية.

وضع جناحه على جناح الحمامة الأم وقال للطائرين الصغيرين: هيا انطلقا بأمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *