ليلى وأبجدية الربيع – حرف الطاء

25

قررت إدارة المدرسة ضمن منهاجها التعليمي؛ تدريب الطلاب على التنظيم والعمل الجماعي واختيار ممثليهم، فطلبت من جميع الصفوف تقديم مشروعٍ معينٍ، يتعاون طلاب ذلك الصف على إنجازه في مدة أسبوع.

تحمَّس الطلاب كثيراً للفكرة، وبدأ كلٌّ منهم باقتراح مشروعٍ معينٍ، وبدأت المساجلات والمداولات في كل صفٍّ، حول أفضلية هذا المشروع أو ذاك. اقترح كميل فكرة تنظيم دوري لكرة القدم، تتنافس فيه جميع الصفوف، إلا أن هذه الفكرة لم ترق لجميع طلاب الصفِّ؛ لأن الكثير منهم يفضل لعبةً أخرى، أو مشروعاً آخر.
اقترحت ليلى فكرة توحيد لباس جميع الطلاب في الصف الواحد لمدة أسبوع، بحيث يلبس الجميع لوناً موحداً، أو زياً معيناً، ونتيجة التصويت في الصفِّ نجحت فكرةُ ليلى، وصارت هي مديرة المشروع والناطق باسم الصف.

بما أنَّ ليلى أصبحت مديرةَ المشروع؛ فقد قررت أنَّ على الجميع لبس اللون الأزرق ليوم غد.
في اليوم التالي حضر جميع طلاب الصف وهم يرتدون قمصاناً أو كنزات زرقاء، وبدا صف ليلى مميزاً حقاً بين بقية الصفوف، أثناء التجمع الصباحي والفرصة. لقد أثنى الكثير من طلاب الصفوف الأخرى على فكرة ليلى، وأسموهم بالصف الأزرق؛ تحبباً، وصار طلاب الصف الأزرق يشعرون بشيء من التميز والتفرُّد. مضى اليوم الأول جميلاً ودون مشاكل، رغم أن بعضاً من المواقف السلبية حدثت، ولكن لم يلحظها أحد، فقد رفض عامر مثلاً أن يلعب مع سماح من الصف الآخر، لأنها “ليست منّا”، هكذا قال عامر وهو يضحك ويركض مع كميل وليلى وجعفر.

شعرت ليلى بالكثير من الفخر؛ أنها صاحبة الفكرة، وقررت أن يستمر اللون الأزرق ليوم آخر، رغم معارضة واضحة من بعض الأصدقاء؛ لأنهم أحبوا أن يغيروا اللون في اليوم التالي، إلا أن ليلى تمكنت -مع بعض الصراخ- من إقناعهم مجدداً، وهكذا استمر مشروع اللون الأزرق ليوم آخر.

في اليوم التالي حضرت هبة مرتديةً كنزة حمراء؛ مما استفز ليلى وبعض الطلاب في الصفِّ، وبدأوا بالاعتراض على ملابس هبة، وتطور الحوار بينهم إلى ما ينذر بمشكلة.

كميل: أنت لست منا بعد الآن، كيف تغيرين عن اللون الأزرق؟
هبة: ولكني لا أملك غير كنزة زرقاء واحدة، وقد اتسخت أمس، واقترحت أمِّي أن ألبس كنزة نظيفة جديدة، ففعلت.
ليلى: لقد خالفت قراري، ويجب عليكِ أن تبقَي بعيدةً عنا أثناء الفرصة؛ حتى لا يتشوه منظرنا من لباسك المخالف.
هبة: ولكن يا ليلى نحن أصدقاء، وأنا من هذا الصفِّ، الموضوع ليس بهذه الجدية!
ليلى: ماذا تقصدين “ليس بهذه الجدية”؟ طبعاً إنه بهذه الجدية. إن جميع صفوف المدرسة تنظر إلينا على أننا مميزون، ولن أسمح لأحدٍ أن يُفشل مشروعنا الرائع. اسمعي يا هبة، لن تلعبي معنا اليوم ولا غداً، حتى تأتين بكنزة زرقاء مثلنا.
جعفر: ولكن يا ليلى يمكن أن نتغاضى اليوم فقط عن الموضوع …
ليلى (مقاطعة): أبداً، لن أقبل أن يخالفني أحد، أنا مديرة المشروع، ولن أدع أحداً يُفشله.

بناءً على إلحاح ليلى؛ ابتعدت هبة عن حلقة الأصدقاء حزينةً، وهي تشعر بالاستياء من أن يقصيَها أصدقاؤها، ولكنها آثرت عدم تصعيد الموقف، وشعرت بشيء من الذنب؛ أنها خذلت أصدقاءها بمخالفتهم في اللباس، وبالتالي قضت بقية النهار لوحدها.

بعد عدة أيام تفاقم الوضع عند طلاب الصفِّ الأزرق، وزادت الخلافات بينهم، فمثلاً حدثت مشادة بين ليلى وجعفر، عندما حاول جعفر أن يلعب بالكرة مع نادرٍ من الصفِّ المجاور، فاعترضت ليلى عليه؛ لأنه يلعب مع “الآخرين”. كانت ليلى تشعر أن الطلاب يخربون مشروعها بمخالفتهم لرؤيتها، وصارت تصطدم معهم كلما حاول أحدهم اللعب، أو التواصل مع طلاب الصفوف الأخرى، أو إذا حاول أحدهم أن يفكر بأن يغير اللون الأزرق إلى لونٍ جديدٍ.
توترت علاقة ليلى مع الكثير من أصدقائها، وبدا أن مشروعها على وشك أن يؤدي إلى أزمة كبرى في المدرسة، لولا أن تدخلت المعلمة في الوقت المناسب.

المعلمة: أبنائي الأحباء، أريد منكم جميعاً أن تتذكروا أن الهدف الأساسي من المشروع؛ هو أن تتعلموا كيف تتعاونون مع بعضكم، وتنظمون أنفسكم؛ لتوحيد طاقتكم، لا لتفريقها.
كميل: ولكن ليلى تصر دائماً على أنها هي المسؤولة، وترفض أن تستمع لنا.
ليلى: أنا صاحبة الفكرة، وأنا من فاز بالانتخابات، هل نسيت؟
كميل: لا لم أنسَ، ولكنا لم ننتخبك لتفرضي علينا رأيك!
ليلى: أنا لا أفرض شيئاً على أحد، أنتم من وافق على المشروع وشارك فيه.
هبة: ولكن المشروع أدى إلى تفرقتنا، لقد أمضيت اليومين الأخيرين ألعب لوحدي بسببه.
ليلى: لو أنك ارتديت اللون الأزرق لما حدث كل هذا.
المعلمة: حسناً، لنتوقف الآن. فكرة المشروع كانت جميلة، ولكنها انحرفت عن الهدف المراد منها. أعتقد أنكم سوف تستفيدون من هذه التجربة أكثر مما كنت أتوقع.
جعفر: كيف يا معلمتي؟
المعلمة: الهدف كان تدريبكم على العمل الجماعي، ولكننا أيضاً يمكن أن نتعلم مما حدث، كيف نتجنب الوقوع في الطغيان؛ بحيث لا نطغى، ولا نكون ضحية للطاغية.
ليلى: الطغيان؟ ماذا تعنين بالطغيان؟
المعلمة: لقد استأثرت برأيك يا ليلى على حساب أصدقائك، وهذا فيه شيء من الطغيان. صحيح أنك كنت منتخبةً كمديرة لمشروع اللباس المميز، لكن هذا لا يخولك أن تحددي اللون بمفردك، وأنْ لا تستمعي لأصدقائك. هذا بالإضافة إلى أنك قدمت مشروعك وفكرتك على صحة أصدقائك النفسية، وحسن التعامل معهم.
ليلى: أنا آسفة، لم أقصد أن أفعل كل هذا، كنت أحاول فقط إنجاح المشروع.
المعلمة: أعرف يا ليلى، ولكنْ هكذا تزين لنا أنفسنا الأمور، فنعمى عن حقيقة ما يحدث. والحقيقة أنكم جميعاً شركاء في الموضوع؛ لأنكم بدأتم بتمييز أنفسكم عن الآخرين في الصفوف الأخرى، وامتنعتم عن اللعب معهم، لأنكم متشابهون في لباسكم الأزرق، مقابل اختلاف لباسهم عنكم. هذه العقلية التي تميز بين الناس على أساسٍ وهميٍّ، وتتعامل معهم من منطلق “نحن وهم” هي العقلية التي أدت بكم إلى المشاكل في النهاية، لأنها تستمر في تقسيمكم وتفريقكم.
الطلاب: نحن آسفون حقاً، لم ننتبه لما كنا نقوم به. قالها الطلاب، والحزن والخجل باديان على وجوههم.
المعلمة: أحبابي، لا تحزنوا، فأنتم قد أدركتم خطأكم، وأتمنى أن لا تقعوا في هذا الفخ مرةً ثانيةً. لا يجوز أن نفرق بين الناس، على أساس اللون، أو الشكل أو العمر أو المكان أو الجنس أو الدين. لا تدعوا أنفسكم ضحيةً لهذا التقسيم؛ لأنه من هنا يبدأ الطغيان.

عادت ليلى في ذلك اليوم إلى منزلها بمشاعرَ متضاربٍة، فمن جهةٍ كانت تشعر بالخجل، كيف أنها طغت وتكبرت، واستبدت برأيها، ولكنها من الجهة الأخرى كانت سعيدةً؛ لأنها اكتشفت معادلة الطغيان، وشعرت أنها تحررت من أن تكون طاغيةً مُستَبِدةً، أو ضحيةً مُستَبَداً بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *